الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
وقيل زرقًا، أي: عُميًا؛ لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى. وقيل: عِطاشًا؛ لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويرزق.{يَتخَافَتُون بينهم} أي: يخفضون أصواتهم ويخفونها؛ لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول. يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض: {إِن لبثتم إِلا عَشْرًا} أي: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها، لزوالها، أو لتأسفهم عليها، لما شهدوا الشدائد والأهوال، أو في القبر، وهو الأنسب بحالهم، فإنهم، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك؛ اعترافًا به، وتحقيقًا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة. وقيل: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة. رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون.قال تعالى: {نحن أعلم بما يقولون}، وهو مدة لبثهم، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه، {إِذْ يقولُ أمثلُهم طريقةً} أي: أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً: {إِن لبثتم إلا يومًا}، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم: استرجاع منه تعالى، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول.{ويسألونك عن الجبال} أي: عن مآل أمرها، وقد سأل عنها رجل من ثقيف، وقيل: مشركو مكة، على طريق الاستهزاء، {فقلْ} لهم: {يَنْسِفُهَا ربي نَسْفًا} أي: يجعلها كالرمل، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور، {فيَذرُها} أي: يترك ما كان تحتها من الأرض {قاعًا صفصفًا} أي: أرضًا مستوية؛ لأن الجبال إذا سُويت، وجُعل سطحها مساويًا لسائر أجزاء الأرض، فقد جعل الكل سطْحًا واحدًا.فالضمير في {يذرها} إما للجبال، باعتبار أجزائها السافلة، الباقية بعد النسف، وهي مقارها ومراكزها، وإما للأرض، المدلول عليها بقرينة الحال؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال.والقاع والقيعة: ما استوى من الأرض وصلُب، وقيل: السهل، وقيل: ما لا نبات فيه. والصفصف: الأرض المستوية الملساء، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة، {لا ترى فيها} أي: في الأرض الذي نسفت جبالُها {عِوَجًا} أي: اعوجاجًا وانخفاضًا، {ولا أمْتًا}؛ نتوءًا وارتفاعًا. قال ابن عباس: العوج: الأودية، والأمت: الروابي. وقال مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع؛ والمعنى: أنك، إن تأملت بالمقاييس الهندسية، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.{يومئذ} أي: يوم إذ نسفت الجبال، {يتبعون الداعيَ} أي: يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر، وهو إسرافيل عليه السلام، يدعو الناس بعد النفخة الثانية، قائمًا على صخرة بيت المقدس: أيها الناس هلموا إلى ربكم، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم، قائلاً: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتمزقة، واللحوم المتفرقة؛ قوموا إلى العرض والحساب، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين، كأنهم جراد منتشر، لا يدرون أين يذهبون، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.وقوله تعالى: {لا عِوَجَ له} أي: لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه، فلا يزيغ عنه، بل كلهم يقصدون صوته، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير: لا عوج للصوت عن أحد، بل يصل إليه أينما كان، ويتوجه إليه حيث كان، {وخشعتِ الأصواتُ للرحمن} أي: خضعت وسكنت لهيبته {فلا تسمع إلا همسًا} أي: صوتًا خفيًا. والهمس: صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر، أي، انقطعت أصوات اللسان، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر، من شدة الهيبة والخوف.{يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة} أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد، {إِلا من أَذِنَ له الرحمن} في الشفاعة، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، {وَرَضِيَ له قولاً} أي: ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل: {ورضي له قولاً} في الدنيا، وهو: لا إله إلا الله، مخلصًا من قلبه... أو: إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه، ورضي لأجله قولاً من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع، وإن وقعت؛ لقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدَّثِّر: 48]. {يعلم ما بين أيديهم} أي: ما تقدمهم من الأحوال، أو من أمر الدنيا، {وما خلفهم}: وما بعدهم مما يستقبلونه، أو من أمر الآخرة، {ولا يُحيطون به علمًا} أي: لا تُحيط علومهم بذاته المقدسة، بحيث يدركون كنه الربوبية، أو: لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري: الكناية في قوله: {به}، يحتمل أن تعود إلى {ما بين أيديهم وما خلفهم}، ويحتمل أن تعود إلى الحقِّ- سبحانه- وهو طريقة السَّلفَ، يقولون: يُعلَم الحق ولا يحيط به العلم، كما قالوا: إنه يُرى ولا يُدْرَك. اهـ.الإشارة: وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا، أي: قرآنًا يجمع القلوبَ على الله، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه- أي: عن الله- ولم يتوجه إليه بكليته، فإنه يحمل وِزرًا، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيُكرم المتقين، ويُهين المجرمين، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.ويسألونك، أيها العارف، عن جبال العقل، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان، فقل ينسفها ربي نسفًا، فيذر أرض النفس، حين استولت عليها أسرار المعاني، قاعًا صفصفًا، لاتصالها بفضاء المعاني، حين ذهبت أغيار الأواني، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. وإنما ترى وجودًا متصلاً، وبحرًا طامسًا، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب، ولا علو ولا سفل، وفي ذلك يقول الشاعر: والمراد بالخلق: جميع الكائنات، فلا خطاب من العبد إلى ربه، لمحو العبد من شدة القرب، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفي الحِكَم: (ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده). وقالوا: من عرف الله كلّ لسانه، وإليه الإشارة بقوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا}. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته، من غير عوج عنه، ولا خروج عن رأيه، حتى يقول له: ها أنت وربك. فحينئذ تحصل الهيبة والتعظيم، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته، وهو في حضرة الملك الكريم، وهذا شأن الصوفية، كلامهم كله تخافت وتسارر؛ لغلبة الهيبة عليهم.قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة} أي: في دخول الحضرة، {إلا من أذن له الرحمن} في التربية والترقية، {ورضي له قولاً}، وهو ذكر الله، يأمر به من أراد شفاعته فيه، حتى تستولي عليه أنوار الذكر، فيدخل مع الأحباب، ويجلس على بساط الاقتراب، فحينئذ يحصل له العلم بالله، على نعت الذوق والوجدان، وشهود العيان، لا على نعت الدليل والبرهان.وقوله تعالى: {ولا يُحيطون به علمًا} إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق لهم تَرَقِّ، وكيف؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا، في هذه الدار وفي تلك الدار! ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات، ما تعجز عنه العقول، وتكِلُّ عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى، ويخوضون في بحار الأحدية، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية، فلا خوف ولا ملل، من غير إحاطة، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
ولعلها وجوه المجرمين، كقوله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [المُلك: 27]، ويؤيده وصله بقوله: {وقد خابَ من حَمَلَ ظلمًا} أي: وعنت الوجوه؛ لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلمًا.قال ابن عباس رضي الله عنه: (خسر من أشرك بالله ولم يتب)، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله: {ومن يعمل من الصالحات...} إلخ، فهو قسيمٌ لقوله: {ومن خاب من حمل ظلمًا}، لا لقوله: {وعنت الوجوه}.وإذا حملنا {عَنَت} على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا، لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت. ثم فصلهم: فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر، {ومن يعمل من الصالحات} أي: بعضها، {وهو مؤمن}، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات، {فلا يخاف ظُلمًا} أي: منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته، {ولا هضمًا} أي: كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته، وأصل الهضم: النقص والكسر؛ يقال: هضمت لك من حقك، أي: حططت، وهضمت الطعام: حططته إلى أسفل المعدة، وامرأة هضيمة الكشح: أي: ضامرة البطن، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات، لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل، ففيه يتوهم الهضم والنقص، وأما بدونه فلا، نعم الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد، ولو غفر له، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات، كما علم شرعًا. والله تعالى أعلم.الإشارة: إذا سرحت الفكرة، وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت، وتحققت بعدم الإحاطة، رجعت إلى عش العبودية، وخضعت للحي القيوم، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى، بغلبة الطبع والهوى، وأما من نهض إلى مولاه، واشتغل بالعمال التي تقربه إلى حضرته، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا؛ فإن الله يرفع العبد على قدر همته، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحي والتنزيل.
|